........ ما بعد المشاهدة :(Dunkirk) (دانكيرك) ........ تجربة حربية فريدة وعبقـرية في فــن التعب
- ميسرة صلاح الدين عثمان
- Oct 19, 2017
- 6 min read

(دانكيرك) (Dunkirk)
اسم مدينة فرنسية مطلة على القنال الإنجليزي أطلق عليها اسم هذا الفيلم. شهدت هذه المدينة حدثًا استثنائيًا كان له بالغ الأثر في قلب موازين الحرب العالمية الثانية فيما بعد. والفيلم يدور عن واقعة إنقاذ الجنود البريطانيين من كمين القوات النازية في تلك المدينة وهو من إخراج وكتابة (كريستوفر نولان) المخرج الشهير بأفلامه كـ: (ثلاثية فارس الظلام – The Dark knight trilogy)(استهلال – Inception) ( مذكرة – Memento) و( بين النجوم – Interstellar).
قصة الفيلم
قصة الفيلم، قصة حربية تاريخية، هذه القصة بالنسبة لـ(نولان) واحدة من أعظم القصص في تاريخ البشرية، لأنها أعلت من قيمة النفس البشرية، وأنها بعكس بقية ما يدور في معارك الحروب، لم تكن حربًا من أجل حصد أرواح البشر، وإنما كانت لإنقاذ هذه الأرواح. وهو ما يتجلى في شعار الفيلم (Slogan) الذي هو: حين تكون النجاة نصرًا. الفيلم يحكي عن كيف سعى الجنود للنجاة ومساعدة بعضهم البعض وكيف ساهم عامة الشعب من البحارة وأصحاب السفن الصغيرة في هذه العملية المعقدة التي كانت صعبة للغاية أن يتم تنفيذها بواسطة قوات البحرية البريطانية بسبب الخسائر الكبيرة ووجود عوائق طبيعية تمنع دخول السفن الحربية الكبيرة إلى مياه القنال الإنجليزي. ومنذ أن تم الإعلان عن بدأ تصوير الفيلم وعن أن مخرجه وكاتبه هو (كريستوفر نولان) فإن المتابعين كانوا في حالة شغف وترقب كبيرين لما سيفعله في هذا الفيلم الذي هو خارج إطار أفلامه المعتادة، أفلامه السابقة التي تحتوي على طبيعة خاصة في السرد والغموض والكشف والإلتواءات والمعاني العميقة والبعد العلمي والميتافزيقي الفلسفي فيها. فكيف سيتعامل مع قصة حقيقية لا توجد فيها هذه العناصر، ولا مفاجأة فيها. فهل سيقدم فيها جديدًا يستحق؟.

المخرج (نولان) يستهل التصوير على شاطئ (دانكيرك) الفرنسية
ما الجديد الذي قدمه (نولان)؟
هذا هو السؤال الذي تداوله الجميع، وسعى لإجابته كل المتابعين عند مشاهدة الفيلم، وللإجابة عن هذا السؤال. نجد أن (نولان) قد قدم نفسه كمخرج عظيم وذي إمكانيات هائلة وأسلحة متعددة يمكنه أن يقدم بها عملا مميزًا عن أي قصة كانت. وسنذكر نقاط التميز في هذا الفيلم في عناصره السينمائية المختلفة والتي جعلته تجربة مختلفة وفريدة أبرزت عبقرية هذا المخرج.
" ليست القصة هي المهمة، ولكن المهم هو كيف تقدمها، ولكني وجدت أن كثيرًا من الناس عندما يشاهدون الأفلام لا يرون سوى محتوى القصة ويغفلون العناصر السينمائية التي جعلتهم يتفاعلون معها بعاطفتهم في المقام الأول"
(ألفريد هتشكوك) المخرج العظيم
السرد : الخطوط المتمايزة
(كريستوفر نولان) ككاتب للفيلم، قرر أن يستخدم أسلوبا مختلفًا في السرد يشابه أساليبه المتنوعة في سرد القصص. حيث قسم أحداث الفيلم إلى ثلاثة أجزاء (البر والبحر والجو) ، وبينما كانت الأحداث بين هذه الخطوط تجري بالتوازي، إلا أنها لم تكن تسير بذات السرعة، فالبر تغطى الأحداث فيه قبل أسبوع والبحر قبل يوم والجو قبل ساعة من لحظة الإنقاذ. وحين بدأت هذه الخطوط المتمايزة تتشابك وتلتقي في نهايتها كانت لحظة تمام عملية الجلاء. وهذه الطريقة في التشابك بين الخطوط والسرد غير المتتابع منحت استيعابًا أوسع للحادثة وما فيها من زوايا متعددة مما جعل المشاهد أكثر تركيزًا وانسياقًا وراء التشويق الذي صنعته المعلومات التي يعرفها المشاهد أكثر من شخصيات الفيلم مما رفع معدلات الإثارة بشكل أكبر مما لو تم سردها بشكل خطي متتابع.

الممثل (فيون وايتهيد) البطل في خط (البر) من القصة
السيناريو والحوار: الفرد يسعى والبطولة للجميع
لأن الفيلم ينظر إلى هذه الحادثة الحربية بمنظور مختلف. فقد قدمها (نولان) في تجربة فريدة في تناول الأفلام الحربية، فهو لم يقدمها لا بطريقة وثائقية أو بطريقة سردية تخالف الواقع بتضخيم دور أبطالها وجعله استثنائيا بشكل أسطوري (Heroic). ولا حتى بالتركيز على جانب معين من جوانب المعركة أو الأحداث بشكل مكبر ليجعلها أكبر من حجمها الحقيقي. بل كان حرص (نولان) على واقعية الحدث في فيلمه كبيرًا جدًا مع أنه لم يغفل أدوات السرد الدرامي التي تجعل المتابعين يتعلقون بالفيلم ويتابعون أحداثه بشغف، فهذه مزية الفيلم الأولى، أنه يقبع في نقطة في الوسط بين الأفلام الوثائقية التي تعرض الحقائق والوثائق بشكل توثيقي مجرد،والأفلام الدرامية التي تعكس المشاعر والشخصيات بشكل درامي مؤثر لدرجة المبالغة أو التغاضي عن بعض تفاصيل القصة الحقيقية. لذلك كان الفيلم رغم تمحوره حول مجموعة محددة من الأفراد والأشخاص، لكنه لم يأخذهم من الجانب الشخصي، لم يحك لنا تاريخهم وسيرتهم السابقة. لم يحك لنا همومهم ومستقبلهم الذي يرجونه، فقط حكى لنا عن وضعهم الراهن، وكيف تطورت أحاسيسهم وانفعالاتهم وردود أفعالهم مع تقلب الأحداث. الفيلم عن النفس البشرية التي تسعى للنجاة، وعن الإنسان الذي يسعى لإنقاذ أخيه الإنسان من شرك الموت. فرغم أن أحداث الفيلم تركز على مجموعة محدودة هي التي تأخذ تعاطفك طوال أحداث الفيلم، إلا أنه بالنماذج التي عرضها ينقل لك أن دورهم كان ما هو إلا جزءًا من دور كبير وعظيم قام به الجميع ولا ينسب فيه الفضل لأحد. الجميع شركاء في هذا الدور العظيم. وهذا نجاح كبير لكتابة السيناريو وتوزيع المشاهد بين الشخصيات المختلفة التي تعايشنا معها رغم قلة الحوار الذي كان انعكاسًا لواقعية (نولان) في الفيلم.

الممثل (مارك رايلانس) البطل في خط (البحر) من القصة
التمثيل : التعبير بالصمت
وهذا ما أعتبره شخصيًّا أميز ما قدمه (نولان) في هذا الفيلم. فكما ذكرت قبلاً، فإن الحوار كان قليلًا. أغلب مشاهد الفيلم، لم يكن يدور فيها الحديث بين الشخصيات. وهو وضع طبيعي. فحين يخيم الموت حيث تقف، لن تجد الرغبة في الحديث مع من يجاورك، ولا يهمك ذلك. رهبة الموقف والحوجة للنجاة كانت هي كل ما يسيطر على مشاعر الجنود التي تشاركها معهم. وهنا تكمن البراعة. وهاهنا فرض (نولان) نفسه كمخرج بارع للممثلين. وهو أمر لم يكن مشتهرًا به سابقًا؛ إذ كان ينسب الفضل في براعة الأداء التمثيلي لبراعة الممثل لا المخرج.
دارت تساؤلات حول طاقم التمثيل الذي حوى أسماء وازنة كـ (مارك رايلانس) و(توم هاردي) و(كينيث براناه) و(كيليان ميرفي) ووجوها شابة عديدة بعضهم يمثل لأول مرة مثل (هاري ستايلز) الذي هو أحد نجوم فرقة (وان دايركشن One Direction). لكن ممثلي الفيلم جميعًا كانوا مبدعين، وحتى أولئك الذين لا يظهرون إلا في لحظات قليلة ومعدودة. كان تمثيلهم قويًّا، صادقًا، مقنعًا، وشديد التأثير. الحوار القليل جعل الممثلين بحاجة لبذل جهد إضافي لعكس ما يعتمل في دواخلهم من مشاعر دون حديث، فكان يجب أن يعبروا عنها بجميع ملامحهم وحركات أجسامهم (أو عيونهم فقط كما حدث للممثل (توم هاردي) الذي قام بدور طيار يرتدي قناع الطيران معظم أوقات الفيلم).
التعبير الصامت يعتبر من أقوى لغات التعبير، لأنها لا تحتاج إلى ترجمان، والممثل البارع هو الذي يستطيع أن يعكس لك شخصيته ومشاعره دون أن ينبس بكلمة واحدة. وقد نجح (نولان) في إيجاد الوصفة التي جعلت جميع الممثلين يخرجون أعظم طاقاتهم في مشاهدهم المختلفة، مثل (براناه) الذي عكس هموم القائد وجمعه بين حالتي الإحباط والأمل في تتابع فريد، و(رايلانس) الذي كانت تترقرق الدموع في عينيه بصمت وهو يعكس تأثره بالموقف الإنساني ورغبته في مساعدة الآخرين على النجاة. والثلاثي (وايتهيد وستايلز وبيرنارد) الذين عكسوا طبيعة الموقف العصيب الذي مر به الجنود على شاطئ (دانكيرك).

الممثل (توم هاردي) البطل في خط (الجو) من القصة
التصوير: اللقطات والتخضيم البصري
وبالحديث عن التصوير في أفلام (نولان) لابد من الحديث عن شريكه في الرؤية التصويرية (هويت هويتيما) مدير تصوير الفيلم. الذي أبدع في اختيار اللقطات وزواياها وعرضها ومحتواها، كان يعكس لك ضيق الشاطئ بجنوده رغم سعته. والتفاف السماء على طياريها وخطر السقوط في أية لحظة. تعبير التخضيم (Inter-joining) ونعني به أن اللقطات تجعلك محاطًا بالبيئة التي تعيش فيها شخوص الفيلم، فتلقي بك في خضم الأحداث وكأنك جزء منها. الصورة في البحر تجعلك تتأرجح مع موجه كالسفن، وتحلق مع الطائرات وتتقلب مع دوران أجنحتها في لقطات السماء، وتشعرك بالضياع والتوتر وملل الانتظار ودنو الموت على الشاطئ. هذه واحدة من الأدوات البارعة التي جعلها (نولان) الوسيلة الثانية لجذب تعاطف المشاهد مع الحدث، وهو ما كان بحاجة إليه لتغطية لحظات الصمت المتكررة في الفيلم والتي كانت بحاجة إلى تصوير ذكي ومعالجة صوتية بارعة كما سيأتي.

لقطة للجنود على رصيف الميناء تجعل المشاهد في خضم الحدث

لقطة أخرى تخضيمية من وسط المياه على بحر القنال

المخرج (نولان) ومدير التصوير (هويتما) في التحضير لتصوير أحد المشاهد
الصوت: الموسيقى وآلة الحرب
للمرة السادسة على التوالي يتعاون (نولان) مع الموسيقار العبقري (هانز زيمر) الذي أشرف من قبل على موسيقى أفلامه منذ (بداية الرجل الوطواط) وحتى فيلمهما الأخير (بين النجوم). هذه المرة يقدم (زيمر) تجربة فريدة في مزج الموسيقى مع صوت آلة الحرب، فكانت الموسيقى تتكامل معها في كل المشاهد تقريبًا لتكمل الصورة وتنقل مشاعر الرهبة والخوف والأمل والإحباط والرغبة في النجاة والفرحة بالنجاة أخيرًا. هذا التناسق والتكامل العجيب، ربما كان هو السبب في عدم تميز اللحن بحاله دون صوت الآلة الموجود في الفيلم. فاللحن الموجود لا يمكن فصله منها، ويجب أن يسمع مع الفيلم ومع أصواته وأحداثه المختلفة. وهي ميزة أراها تميز هذا الفيلم أيضًا. ولا أراها عيبًا كما قد يفكر البعض.
أضف إلى ذلك أن تجربة الصوت نفسها كانت ثلاثية الأبعاد بمعناها الحقيقي، فلو شاهدت الفيلم في صالة سينما جيدة في خدمتها الصوتية، فلابد أن أصوات إطلاق النار وتلاطم الأمواج ولفحات الهواء ستجعلك تجفل وتستشعر الخوف الذي تجسد في تلك اللحظات.

المخرج (كريستوفر نولان) مع (هانز زيمر) الموسيقار العبقري
تقييم التجربة
الفيلم قدم القصة الحربية بطريقة جديدة وغير متوقعة. إضافة إلى أنه قدم لنا (نولان) كمخرج ممثلين بارع ومتمكن وهو ما لم نكن نعتاده في السابق. هذا دون أن ننسى عظمة الدور الذي قام به طاقم التمثيل وفريق التصوير والموسيقيين ومهندسي الصوت ليعكسوا لنا روح المعركة. المعركة التي كان النصر فيها متولدًا من النجاة. كان نجاحًا جماعيًّا تكون من أداءات مختلفة للأفراد سعوا جميعًا لتحقيق هدف واحد. قد يكون الفيلم في رأيي ليس أفضل أو أجمل أفلام (نولان) عبر تاريخه، لكنه قدم لي (نولان) المخرج بشكل أفضل مما سبق دون أدنى شك. وقد بات في نظري ونظر المراقب أقرب ما يكون لحصد لقب الأوسكار لأول مرة في تاريخه. وهو ما سنراه في قابل الأيام. الفيلم يستحق المشاهدة بالطبع وأنصحكم بذلك.
Comments